فصل: المسخ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر **


  النسخ

فأما النسخ فإنه لا يكون إلا في أخذ المعنى واللفظ جميعا أو في أخذ المعنى وأكثر اللفظ لأنه

مأخوذ من نسخ الكتاب وعلى ذلك فإنه ضربان‏:‏

الأول‏:‏ يسمى وقوع الحافر على الحافر كقول امرئ القيس‏:‏

وقوفاً بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتحمل

وكقول طرفة‏:‏

وقوفا بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجلد

وقد أكثر الفرزدق وجرير من هذا في شعرهما فمنه ما وردا فيه مورد امرئ القيس وطرفة في

أتعدل أحسابا لئاماً حماتها بأحسابنا إني إلى الله راجع

وكقول جرير‏:‏

أتعدل أحسابا كراما حماتها بأحسابكم إني إلى الله راجع

ومنه ما تساويا فيه لفظا بلفظ كقول الفرزدق‏:‏

وغر قد نسقت مشهرات طوالع لا تطيق لها جوابا

بكل ثنية وبكل ثغر غرائبهن تنتسب انتسابا

بلغن الشمس حين تكون شرقا ومسقط رأسها من حيث غابا

وكذلك قال جرير من غير أن يزيد‏.‏

وقد حكي أن امرأة من عقيل يقال لها ‏"‏ ليلى ‏"‏ كان يتحدث إليها الشباب فدخل الفرزدق إليها

وجعل يحادثها وأقبل فتى من قومها كانت تألفه فدخل إليها فأقبلت عليه وتركت الفرزدق

فغاظه ذلك فقال للفتى‏:‏ أتصارعني فقال‏:‏ ذاك إليك فقال إليه فلم يلبث أن أخذ الفرزدق

فصرعه وجلس على صدره فضرط فوثب الفتى عنه وقال‏:‏ يا أبا فراس هذا مقام العائذ

بك والله ما أردت ما جرى فقال‏:‏ ويحك والله ما بي أنك صرعتني ولكن كأني بابن الأتان

يعني جريرا وقد بلغه خبري فقال يهجوني‏:‏

فلو كنت ذا حزم شددت وكاءه كما شد جربان الدلاص قيون

قال‏:‏ فوالله ما مضى إلا أيام حتى بلغ جريرا الخبر فقال فيه هذين البيتين وهذا من أغرب ما

يكون في مثل هذا الموضع وأعجبه‏.‏

ويقال‏:‏ إن الفرزدق وجريرا كانا ينطقان في بعض الأحوال عن ضمير واحد‏.‏

وهذا عندي مستبعد فإن ظاهر الأمر يدل على خلافه والباطن لا يعلمه إلا الله تعالى‏.‏

وإلا فإذا رأينا شاعرا متقدم الزمان قد قال قولا ثم سمعناه من شاعر أتى من بعده علمنا

بشهادة الحال أنه أخذه منه وهب أن الخواطر تتفق في استخراج المعاني الظاهرة المتداولة

فكيف تتفق الألسنة في صوغها الألفاظ

ومما كنت أستحسنه من شعر أبي نواس قوله من قصيدته التي أولها‏:‏

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

دارت على فتية ذل الزمان لهم فما يصيبهم إلا بما شاءوا

وهذا من عالي الشعر ثم وقفت في كتاب الأغاني لأبي الفرج على هذا البيت في أصوات معبد

وهو‏:‏

لهفي على فتية ذل الزمان لهم فما أصابهم إلا بما شاءوا

الضرب الثاني من النسخ‏:‏ وهو الذي يؤخذ فيه المعنى وأكثر اللفظ كقول بعض المتقدمين يمدح

معبدا صاحب الغناء‏:‏

أجاد طويس والسريجي بعده وما قصبات السبق إلا لمعبد

ثم قال أبو تمام‏:‏

محاسن أصناف المغنين جمة وما قصبات السبق إلا لمعبد

وهذه قصيدة أولها‏:‏

غدت تستجير الدمع خوف نوى غد

فقال‏:‏

وقائع أصل النصر فيها وفرعه إذا عدد الإحسان أو لم يعدد

فمهما تكن من وقعة بعد لا تكن سوى حسن مما فعلت مردد

محاسن أصناف المغنين جمة البيت

  السلخ

وأما السلخ فإنه ينقسم إلى اثني عشر ضربا وهذا تقسيم أوجبته القسمة وإذا تأملته علمت أنه

فالأول‏:‏ أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه ولا يكون هو إياه وهذا من أدق السرقات

مذهبا وأحسنها صورة ولا يأتي إلا قليلا‏.‏

فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة‏:‏

لقد زادني حبا لنفسي أنني بغيض إلى كل امريء غير طائل

أخذ المتنبي هذا المعنى واستخرج منه معنى آخر غيره إلا أنه شبيه به فقال‏:‏

وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني فاضل

والمعرفة بأن هذا المعنى أصله من ذاك المعنى عسر غامض وهو غير متبين إلا لمن أعرق في ممارسة الأشعار وغاص في استخراج المعاني وبيانه أن الأول يقول‏:‏ إن بغض الذي هو غير طائل إياي مما زاد نفسي حبا إلي أي جملها في عيني وحسنها عندي كون الذي هو غير طائل مبغضي والمتنبي يقول‏:‏ إن ذم الناقص إياي شاهد بفضلي فذم الناقص إياه كبغض الذي هو غير طائل ذلك الرجل وشهادة ذم الناقص إياه بفضله كتحسين بغض الذي هو غير طائل نفس ذلك الرجل عنده‏.‏

ومن هذا الضرب ما هو أظهر مما ذكرته وأبين كقول أبي تمام‏:‏

رعته الفيافي بعد ما كان حقبة رعاها وماء الروض ينهل ساكبه

شيخان قد ثقل السلاح عليهما وعداهما رأي السميع البصير

ركبا القنا من بعد ما حملا القنا في عسكر متحامل في عسكر

فأبو تمام ذكر أن الجمل رعى الأرض ثم سار فيها فرعته‏:‏ أي أهزلته فكأنها فعلت به مثل ما

فعل بها والبحتري نقل هذا إلى وصف الرجل بعلو السن والهرم فقال‏:‏ إنه كان يحمل الرمح في

القتال ثم صار يركب عليه‏:‏ أي يتوكأ منه على عصا كما يفعل الشيخ الكبير‏.‏

وكذلك ورد قول الرجلين أيضا فقال أبو تمام‏:‏

لا أظلم النأي قد كانت خلائقها من قبل وشك النوى عندي نوى قذفا

وهذا أوضح من الذي تقدمه وأكثر بيانا‏.‏

الضرب الثاني من السلخ‏:‏ أن يؤخذ المعنى مجردا من اللفظ وذلك مما يصعب جدا ولا يكاد

يأتي إلا قليلا‏.‏

فمنه قول عروة بن الورد من شعراء الحماسة‏:‏

ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا من المال يطرح نفسه كل مطرح

ليبلغ عذرا أو ينال رغيبة ومبلغ نفس عذرها مثل منجح

أخذ أبو تمام هذا المعنى فقال‏:‏

فعروة بن الورد جعل اجتهاده في طلب الرزق عذرا يقوم مقام النجاح وأبو تمام جعل الموت في الحرب الذي هو غاية اجتهاد المجتهد في لقاء العدو قائما مقام الانتصار وكلا المعنيين واحد غير أن اللفظ مختلف‏.‏

وهذا الضرب في سرقات المعاني من أشكلها وأدقها وأغربها وأبعدها مذهبا ولا يتفطن له

ويستخرجه من الأشعار إلا بعض الخواطر دون بعض‏.‏

وقد يجيء منه ما هو ظاهر لا يبلغ الدقة مبلغ هذه الأبيات المشار إليها كقول ابن المقفع في باب الرثاء من كتاب الحماسة‏:‏

فقد جر نفعا فقدنا لك أننا أمنا على كل الرزايا من الجزع

وجاء بعده من أخذ هذا المعنى فقال‏:‏

وقد عزى ربيعة أن يوما عليها مثل يومك لا يعود

وهذا من البديع النادر‏.‏

وههنا ما هو أشد ظهورا من هذين البيتين في هذا الضرب من السرقات الشعرية وذلك يأتي

في الألفاظ المترادفة التي يقوم بعضها مقام بعض وذاك الاعتداد به لمكان وضوحه لكن قد

يجيء منه ما هو صفة من صفات الترادف لا الاسم نفسه فيكون حسنا كقول جرير‏:‏

أخذ أبو الطيب المتنبي هذا المعنى فقال‏:‏

ومن في كفه منهم قناة كمن في كفه منهم خطاب

الضرب الثالث من السلخ‏:‏ وهو أخذ المعنى ويسير من اللفظ وذلك من أقبح السرقات

وأظهرها شناعة على السارق‏.‏

فمن ذلك قول البحتري في غلام‏.‏

فوق ضعف الصغير إن وكل الأمر إليه ودون كيد الكبار

سبقه أبو نواس فقال‏:‏

لم يخف من كبر عما يراد به من الأمور ولا أزرى من الصغر

وكذلك قوله أيضا‏:‏

كل عيد له انقضاء وكفي كل يوم من جوده في عيد

أخذه من علي بن جبلة في قوله‏:‏

للعيد يوم من الأيام منتظر والناس في كل يوم منك في عيد

وكذلك قوله‏:‏

جاد حتى أفنى السؤال فلما باد منا السؤال جاد ابتداء

أعطيت حتى لم تدع لك سائلا وبدأت إذ قطع العفاة سؤالها

وقد افتضح البحتري في هذه المآخذ غاية الافتضاح هذا على بسطة باعه في الشعر وغناه عن

مثلها وقد سلك هذه الطريق فحول الشعراء ولم يستنكفوا من سلوكها فممن فعل ذلك أبو تمام

فإنه قال‏:‏

قد قلصت شفتاه من حفيظته فخيل من التعبيس مبتسما

سبقه عبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن فقال‏:‏

وإذا شئت أن ترى الموت في صو - - رة ليث في لبدتي رئبال

فالقه غير أنما لبدتاه أبيض صارم وأسمر عال

تلق ليثا قد قلصت شفتاه فيرى ضاحكاً لعبس الصيال

وكذلك قال أبو تمام‏:‏

فلم أمدحك تفحيماً شعري ولكني مدحت بك المديحا

أخذه من حسان بن ثابت في مدحه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏

ما إن مدحت محمداً بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمد

ولا شك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سمع قول حسان بن ثابت حيث استخلف عمر

رضي الله عنه فقال له عمر‏:‏ استخلف غيري فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ ما حبوناك بها

وإنما حبوناها بك‏.‏

وهكذا فعل ابن الرومي فمما جاء له قوله‏:‏

جرحته العيون فاقتص منها بجوى في القلوب دامي الندوب

سبقه أبو تمام فقال‏:‏

أدميت باللحظات وجنته فاقتص ناظره من القلب

وكذلك قول ابن الرومي‏:‏

وكلت مجدك في اقتضائك حاجتي وكفى به متقاضيا ووكيلا

سبقه أبو تمام فقال‏:‏

وإذا المجد كان عوني على المر - ء تقاضيته بترك التقاضي

وكذلك قال ابن الرومي‏:‏

وما لي عزاء عن شبابي علمته سوى أنني من بعده لا أخلد

سبقه منصور النمري فقال‏:‏

قد كدت أقضي على فوت الشباب أسا لولا تعزي أن العيش منقطع

فدى نفسه بضمان النضار وأعطى صدور القنا الذابل

أخذه من قول الفرزدق‏:‏

كان الفداء له صدور رماحنا والخيل إذ رهج الغبار مثار

وكذلك قوله أيضا‏:‏

أين أزمعت أيهذا الهمام نحن نبت الربا وأنت الغمام

أخذه من بشار حيث قال‏:‏

كأن الناس حين تغيب عنهم نبات الأرض أخطأه القطار

وكذلك قوله‏:‏

فلا زالت ديارك مشرقات ولا دانيت يا شمس الغروبا

لأصبح آمنا فيك الرزايا كما أنا آمن فيك العيوبا

أخذه ابن الرومي حيث قال‏:‏

أسالم قد سلمت من العيوب ألا فاسلم كذاك من الخطوب

والذي عندي في الضرب المشار إليه أنه لا بد من مخالفة المتأخر المتقدم‏:‏ إما بأن يأخذ المعنى

فيزيده على معنى آخر أو يوجز في لفظه أو يكسوه عبارة أحسن من عبارته‏.‏

ومن هذا الضرب ما يستعمل على وجه يزداد قبحه وتكثر البشاعة به وهو‏:‏ أن يأخذ

الشاعرين معنى من قصيدة لصاحبه على وزن وقافية فيودعه قصيدة له على ذلك الوزن

وتلك القافية ومثاله في ذلك كمن سرق جوهرة من طوق أو نطاق ثم صاغها في مثل ما سرقها

منه والأولى به أن كان نظم تلك الجوهرة في عقد أو صاغها في سوار أو خلخال ليكون أكتم

لأمرها‏.‏

وممن فعل ذلك من الشعراء فافتضح أبو الطيب المتنبي حيث قال في قصيدته التي أولها‏:‏

غيري بأكثر هذا الناس ينخدع

لم يسلم الكر في الأعقاب مهجته إن كان أسلمها الأصحاب والشيع

وهذه القصيدة مصوغة على قصيدة لأبي تمام في وزنها وقافيتها أولها‏:‏

أي القلوب عليكم ليس ينصدع

وهذا المعنى الذي أورده أبو الطيب مأخوذ من بيت منها وهو‏:‏

ما غاب عنكم من الإقدام أكرمه في الروع إذ غابت الأنصار والشيع

وليس في السرقات الشعرية أقبح من هذه السرقة فإنه لم يكتف الشاعر فيها بأن يسرق المعنى

حتى ينادي على نفسه أنه قد سرقه‏.‏

الضرب الرابع من السلخ‏:‏ وهو أن يؤخذ المعنى فيعكس وذلك حسن يكاد يخرجه حسنه عن

حد السرقة‏.‏

فمن ذلك قول أبي نواس‏:‏

قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم أشهى المطي إلي ما لم يركب

كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب

فقال مسلم بن الوليد في عكس ذلك‏:‏

إن المطية لا يلذ ركوبها حتى تذلل بالزمام وتركبا

والحب ليس بنافع أربابه حتى يفصل في النظام ويثقبا

ومن هذا الباب قول ابن جعفر‏:‏

ولما بدا لي أنها لا تريدني وأن هواها ليس عني بمنجلي

تمنيت أن تهوى سواي لعلها تذوق صبابات الهوى فترق لي

وقال غيره‏:‏

ولقد سرني صدودك عني في طلابيك وامتناعك مني

حذراً أن أكون مفتاح غيري وإذا ماخلوت كنت التمني

أما ابن جعفر فإنه تداءب وألقى عن منكبه رداء الغيرة وأما الآخر فجاء بالضد من ذلك

وتغالى به غاية الغلو‏.‏

وكذلك ورد قول أبي الشيص‏:‏

أجد الملامة في هواك لذيذة شغفا بذكرك فليلمني اللوم

أخذ أبو الطيب المتنبي هذا المعنى وعكسه فقال‏:‏

أأحبه وأحب فيه ملامة إن الملامة فيه من أعدائه

وهذا من السرقات الخفية جدا ولأن يسمى ابتداعا أولى من أن يسمى سرقة‏.‏

وقد توخيته في شيء من شعري فجاء حسنا فمن ذلك قولي‏:‏

لولا الكرام وما سنوه من كرم لم يدر قائل شعر كيف يمتدح

أخذته من قول أبي تمام‏:‏

لولا خلال سنها الشعر ما درى بناة العلى من أين تؤتى المكارم

الضرب الخامس من السلخ‏:‏ وهو أن يؤخذ بعض المعنى

فمن ذلك قول أمية بن الصلت يمدح عبد الله بن جدعان‏:‏

عطاؤك زين لامريء إن حبوته ببذل وما كل العطاء يزين

أخذه أبو تمام فقال‏:‏

تدعى عطاياه وفراً وهي إن شهرت كانت فخاراً لمن يعفوه مؤتنفاً

ما زلت منتظراً أعجوبة زمناً حتى رأيت سؤالاً يجتني شرفاً

فأمية بن الصلت أتى بمعنيين اثنين‏:‏ أحدهما أن عطاءك زين والآخر أن عطاء غيرك شين وأما

أبو تمام فإنه أتى بالمعنى الأول لا غير‏.‏

ومن هذا الضرب قول علي بن جبلة‏:‏

وآثل ما لم يحوه متقدم وإن نال منه آخر فهو تابع

فقال أبو الطيب المتنبي‏:‏

ترفع عن عون المكارم قدره فما يفعل الفعلات إلا عذاريا

فعلي بن جبلة اشتمل ما قاله على معنيين أحدهما أنه فعل ما لم يفعله أحد ممن تقدمه وإن نال

منه الآخر شيئا فإنما هو مقتد به وتابع له وأما أبو الطيب المتنبي فإنه لم يأت بالمعنى الواحد

وهو أنه يفعل ما لا يفعله غيره غير أنه أبرزه في صورة حسنة‏.‏

ومن ذلك قول أبي تمام‏:‏

كلف برب المجد يعلم أنه لم يبتدأ عرف إذا لم يتمم

ومثلك إن أبدى الفعال أعاده وإن صنع المعروف زاد وتمما

فأبو تمام قال‏:‏ إن الممدوح يرب صنيعه‏:‏ أي يستديمه ويعلم أنه إذا لم يستدمه فما ابتدأه

والبحتري قال‏:‏ إنه يستديم صنيعه لا غيره وذلك بعض ما ذكره أبو تمام‏.‏

وكذلك قال البحتري‏:‏

ادفع بأمثال أبي غالب عادية العدم أو استعفف

أخذه ممن تقدمه حيث قال‏:‏

انتج الفضل أو تخال عن الدنيا فهاتان غاية الهمم

فالبحتري أخذ بعض هذا المعنى ولم يستوفه‏.‏

وكذلك ورد قول ابن الرومي‏:‏

نزلتم على هام المعالي إذا ارتقى إليها أناس غيركم بالسلالم

أخذه أبو الطيب المتنبي فقال‏:‏

فوق السماء وفوق ما طلبوا فإذا أرادوا غاية نزلوا

وهذا بعض المعنى الذي تضمنه قول ابن الرومي لأنه قال‏:‏ إنكم نزلتم على هام المعالي وإن

غيركم يرقى إليها رقيا وأما المتنبي فإنه قال‏:‏ إنكم إذا أردتم غاية نزلتم وأما قوله ‏"‏ فوق السماء‏"‏‏.‏ فإنه يغني عنه قول ابن الرومي ‏"‏ نزلتم على هام المعالي ‏"‏ إذ المعالي فوق كل شيء لأنها مختصة بالعلو مطلقا‏.‏

الضرب السادس من السلخ‏:‏ وهو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر‏.‏

فمما جاء منه قول الأخنس بن شهاب‏:‏

إذا قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فنضارب

أخذه مسلم بن الوليد فزاد عليه وهو قوله‏:‏

إن قصر الرمح لم يمش الخطا عددا أو عرد السيف لم يهمم بتعريد

وكذلك ورد قول جرير في وصف أبيات من شعره‏.‏

غرائب آلاف إذا حان وردها أخذن طريقا للقصائد معلما

أخذه أبو تمام فزاد عليه إذ قال في وصف قصيد له وقرن ذلك بالممدوح‏:‏

غرائب لاقت في فنائك أنسها من المجد فهي الآن غير غرائب

وكذلك ورد قول ولد مسلمة بن عبد الملك‏:‏

أذل الحياة وكره الممات وكلا أراه طعاماً وبيلاً

فإن لم يكن غير إحداهما فسيرا إلى الموت سيراً جميلاً

مثل الموت بين عينيه وال - ذل وكلا رآه خطبا عظيما

ثم سارت به الحمية قدما فأمات العدا ومات كريما

فزاد عليه بقوله‏:‏

فأمات العدا ومات كريما

ويروى أنه نظر عبد الله بن علي رضي الله عنه عند قتال المروانية إلى فتى عليه أبهة الشرف

وهو يبلي في القتال بلاء حسنا فناداه‏:‏ يا فتى لك الأمان ولو كنت مروان بن محمد فقال‏:‏ إلا

أكنه فلست بدونه قال‏:‏ فلك الأمان ولو كنت من كنت فأطرق ثم تمثل بهذين البيتين

المذكورين‏.‏

وكذلك ورد قول أبي تمام‏:‏

يصد عن الدنيا إذا عن سودد ولو برزت في زي عذراء ناهد

أخذه من قول المعذل بن غيلان‏:‏

ولست بنظار إلى جانب العلا إذا كانت العلياء في جانب الفقر

إلا أنه زاده زيادة حسنة بقوله‏:‏

ولو برزت في زي عذراء ناهد

خل عنا فإنما أنت فينا واو عمرو أو كالحديث المعاد

أخذه من قول أبي نواس‏:‏

قل لمن يدعي سليما سفاها لست منها ولا قلامه ظفر

إنما أنت ملصق مثل واو ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو

إلا أن البحتري زاد على أبي نواس قوله ‏"‏ أو كالحديث المعاد ‏"‏

هكذا ورد قول البحتري أيضا‏:‏

ركبوا الفرات إلى الفرات وأملوا جذلان يبدع في السماح ويغرب

أخذه من مسلم بن الوليد في قوله‏:‏

ركبت إليه البحر في مؤاخرته فأوفت بنا من بعد بحر إلى بحر

إلا أن البحتري زاد عليه بقوله‏:‏

جذلان يبدع في السماح ويغرب

وكذلك ورد قول أبي نواس‏:‏

وليس لله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

وهذا البيت قد لهج به الناس لهجا كثيرا ومنهم من ظنه مبتدعا لأبي نواس ويحكى عن أبي

تمام أنه دخل على ابن أبي داود فقال له‏:‏ أحسبك عاتبا يا أبا تمام فقال إنما يعتب على واحد

وأنت الناس جميعا قال‏:‏ من أين هذه يا أبا تمام قال‏:‏ من قول الحاذق أبي نواس وأنشده

البيت وهذه الحكاية عندي موضوعة لأن أبا تمام كان عارفا بالشعر حتى إنه قال‏:‏ لم أنظم

شعرا حتى حفظت سبعة عشر ديوانا للنساء خاصة دون الرجال وما كان يخفى عنه أن هذا

المعنى ليس لأبي نواس وإنما هو مأخوذ من قول جرير‏:‏

إذا غضبت عليك بنو تميم حسبت الناس كلهم غضابا

إلا أن أبا نواس زاد زيادة حسنة وذاك أن جريرا جعل الناس كلهم بني تميم وأبا نواس جعل

العالم كله في واحد وذلك أبلغ‏.‏

ومما ينتظم في هذا السلك قول الفرزدق‏:‏

علام تلفتين وأنت تحتي وخير الناس كلهم أمامي

متى تأتي الرصافة تستريحي من الأنساع والدبر الدوامي

أخذه أبو نواس فصار أملك به وأحسن فيه غاية الإحسان فقال‏:‏

وإذا المطي بنا بلغن محمدا فظهورهن على الرجال حرام

فالفرزدق قال ‏"‏ تستريحي من الأنساع والدبر الدوامي ‏"‏ وليست استراحتها بمانعة من معاودة

إتعابها مرة أخرى‏:‏ وأما أبو نواس فإنه حرم ظهورهن على الرجال‏:‏ أي أنها تعفى من السفر إعفاء مستمرا ولا شك أن أبا نواس لم يتنبه لهذه الزيادة إلا من فعل العرب في السائبة والبحيرة‏.‏

وعلى هذا الأسلوب ورد قول المتنبي‏:‏

وملومة زرد ثوبها ولكنه بالقنا مخمل

أخذه من أبي نواس في قوله‏:‏

أمام خميس أرجون كأنه قميص محوك من قنا وجياد

فزاد أبو الطيب زيادة صار بها أحق من أبي نواس بهذا المعنى‏.‏

وكذلك قال أبو الطيب المتنبي‏:‏

وإن جاد قبلك قوم مضوا فإنك في الكرم الأول

فأخذته أنا وزدت عليه فقلت‏:‏

أنت في الجود أول وقضى الله بألا يرى لك الدهر ثان

وهذا النوع من السرقات قليل الوقوع بالنسبة إلى غيره‏.‏

الضرب السابع من السلخ‏:‏ وهو أن يؤخذ المعنى فيكسى عبارة أحسن من العبارة الأولى‏.‏

وهذا هو المحمود الذي يخرج به حسنه عن باب السرقة فمن ذلك قول أبي تمام‏:‏

أخذه البحتري فقال‏:‏

إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعي

ومن هذا الأسلوب قولهما أيضا فقال أبو تمام‏:‏

إن الكرام كثير في البلاد وإن قلوا كما غيرهم قلوا وإن كثروا

وقال البحتري‏:‏

قل للكرام فصار يكثر مدهم ولقد يقل الشيء حتى يكثرا

وعلى هذا النحو ورد قول أبي نواس‏:‏

يدل على ما في الضمير من الفتى تقلب عينيه إلى شخص من يهوى

أخذه أبو الطيب المتنبي فقال‏:‏

وإذا خامر الهوى قلب صب فعليه لكل عين دليل

ومما ينتظم في هذا السلك قول أبي الطيب المتنبي‏:‏

إذا ما ازددت من بعد التناهي فقد وقع انتقاصي في ازدياد

أخذه ابن نباتة السعدي فقال‏:‏

إذا كان نقصان الفتى من تمامه فكل صحيح في الأنام عليل

وما كلفة البدر المنير قديمة ولكنها في وجهه أثر اللطم

أخذه الشاعر المعروف بالقيسراني فقال‏:‏

وأهوى التي أهوى لها البدر ساجدا ألست ترى في وجه أثر التراب

وكذلك قول ابن الرومي‏:‏

إذا شنئت عين امريء شيب نفسه فعين سواه بالنشاءة أجدر

أخذه من تأخر عنه فقال‏:‏

إذا كان شيبي بغيضا إلي فكيف يكون إليها حبيبا

ومما ينخرط في هذا السلك قول بعضهم‏:‏

مخصرة الأوساط زانت عقودها بأحسن مما زينتها عقودها

أخذه أبو تمام فقال‏:‏

كأن عليها كل عقد ملاحة وحسنا وإن أضحت وأمست بلا عقد

ثم أخذه البحتري فقال‏:‏

إذا أطفأ الياقوت إشراق وجهها فإن عناء ما توخت عقودها

أمثال هذا كثيرة وفيما أوردناه مقنع‏.‏

وذلك من أحسن السرقات لما فيه من الدلالة على بسطة الناظم في القول وسعة باعه في

البلاغة فمن ذلك قول بشار‏:‏

من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

أخذه سلم الخاسر وكان تلميذه فقال‏:‏

من راقب الناس مات غماً وفاز باللذة الجسور

فبين البيتين لفظتان في التأليف

ومن هذا الأسلوب قول أبي تمام‏:‏

برزت في طلب المعالي واحداً فيها تسير مغوراً ومنجداً

عجب بأنك سالم في وحشة في غاية ما زلت فيها مفرداً

أخذه ابن الرومي فقال‏:‏

غربته الخلائق الزهر في النا - س وما أوحشته بالتغريب

وكذلك ورد قول أبي نواس‏:‏

وكلت بالدهر غير غافلة من جود كفك تأسو كل ما جرحا

أخذه ابن الرومي فقال‏:‏

وعلى هذا ورد قول ابن الرومي‏:‏

كأني أستدني بك ابن حنية إذا النزع أدناه من الصدر أبعدا

أخذه بعض شعراء الشام وهو ابن قسيم الحموي فقال‏:‏

فهو كالسهم كلما زدته منك دنوا بالنزع زادك بعدا

ولقيت جماعة من الأدباء بالشام ووجدتهم يزعمون أن ابن قسيم هو الذي ابتدع هذا المعنى

وليس كذلك وإنما هو لابن الرومي‏.‏

ومما يجري هذا المجرى قول أبي العتاهية‏:‏

وإني لمعذور على فرط حبها لأن لها وجها يدل على عذري

أخذه أبو تمام فقال‏:‏

له وجه إذا أبصر - - ته ناجاك عن عذري

فأوجز في هذا المعنى غاية الإيجاز‏.‏

ومما يجري على هذا النهج قول أبي تمام‏:‏

كانت مساءلة الركبان تخبرني عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري

وأستكبر الأخبار قبل لقائه فلما التقينا صغر الخبر الخبر

وكذلك قولهما في موضع آخر فقال أبو تمام‏:‏

كم صارما عضبا أناف على قفا منهم لأعباء الوغى حمال

سبق المشيب إليه حتى ابتزه وطن النهى من مفرق وقذال

أخذه أبو الطيب فزاد وأحسن حيث قال‏:‏

يسابق القتل فيهم كل حادثة فما يصيبهم موت ولا هرم

ومن هذا الضرب قول بعض الشعراء‏:‏

أمن خوف فقر تعجلته وأخرت إنفاق ما تجمع

فصرت الفقير وأنت الغني وما كنت تعدو الذي تصنع

أخذه أبو الطيب المتنبي فقال‏:‏

ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر

الضرب التاسع من السلخ‏:‏ وهو أن يكون المعنى عاما فيجعل خاصا أو خاصا فيجعل عاما‏.‏

وهو من السرقات التي يسامح صاحبها فمن ذلك قول الأخطل‏:‏

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

أألوم من بخلت يداه وأغتدي للبخل تربا ساء ذا صنيعا

وهذا من العام الذي جعل خاصا ألا ترى أن الأول نهى عن الإتيان بما ينهى عنه مطلقا وجاء

بالخلق منكرا فجعله شائعا في بابه وأما أبو تمام فإنه خصص ذلك بالبخل وهو خلق واحد من

جملة الأخلاق‏.‏

وأما جعل الخاص عاما فكقول أبي تمام‏:‏

ولو حادرت شول عذرت لقاحها ولكن منعت الدر والضرع حافل

أخذه أبو الطيب المتنبي فجعله عاما إذ يقول‏:‏

وما يؤلم الحرمان من كف حارم كما يؤلم الحرمان من كف رازق

الضرب العاشر من السلخ‏:‏ وهو زيادة البيان مع المساواة في المعنى وذلك أن يؤخذ المعنى

فيضرب له مثال يوضحه فمما جاء منه قول أبي تمام‏:‏

هو الصنع إن يعجل فنفع وإن يرث فللريث في بعض المواطن أنفع

أخذه أبو الطيب المتنبي فأوضحه بمثال ضربه له وذلك قوله‏:‏

ومن الخير بطء سيبك عني أسرع السحب في المسير الجهام

وهذا من المبتدع لا من المسروق وما أحسن ما أتي بهذا المعنى في المثال المناسب له‏.‏

قد قلصت شفتاه من حفيظته فخيل من شدة التعبيس مبتسما

أخذه أبو الطيب المتنبي فقال‏:‏

وجاهل مده في جهله ضحكي حتى أتته يد فراسة وفم

إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث مبتسم

ومما ينخرط في هذا السلك قول أبي تمام‏:‏

وكذاك لم تفرط كآبة عاطل حتى يجاورها الزمان بحال

أخذه أبو عبادة البحتري فقال‏:‏

وقد زادها إفراط حسن جوارها لأخلاق أصفار من المجد خيب

وحسن دراري الكواكب أن ترى طوالع في داج من الليل غيهب

فإنه أتى بالمعنى مضروبا له هذا المثل الذي أوضحه وزاده حسنا‏.‏

الضرب الحادي عشر من السلخ‏:‏ وهو اتحاد الطريق واختلاف المقصد ومثاله أن يسلك

الشاعران طريقاً واحدة فتخرج بهما إلى موردين أو روضتين وهناك يتبين فضل أحدهما على

الآخر‏.‏

فمما جاء من ذلك قول أبي تمام في مرثية بولدين صغيرين‏:‏

نجمان شاء الله ألا يطلعا إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا

إن الفجيعة بالرياض نواضرا لأجل منها بالرياض ذوابلا

لهفي على تلك الشواهد فيهما لو أخرت حتى تكون شمائلا

إن الهلال إذا رأيت نموه أيقنت أن سيكون بدرا كاملا

قل للأمير وإن لقيت موقرا منه يريب الحادثات حلاحلا

إن تزر في طرفي النهار واحد رزأين هاجا لوعة وبلابلا

فالثقل ليس مضاعفا لمطية إلا إذا ما كان وهما بازلا

لا غرو إن فننان من عيدانه لقيا حماما للبرية آكلا

إن الأشاء إذا أصاب مشذب منه اتمهل ذرا وأث أسافلا

شمخت خلالك أن يواسيك امرؤ أو أن تذكر ناسيا أو غافلا

إلا مواعظ قادها لك سمحة إسجاح لبك سامعا أو قائلا

هل تكلف الأيدي بهز مهند إلا إذا كان الحسام القاصلا

ألست من القوم الذي من رماحهم نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل

بمولودهم صمت اللسان كغيره ولكن في أعطافه منطق الفصل

تسليهم علياؤهم عن مصابهم ويشغلهم كسب الثناء عن الشغل

عزاءك سيف الدولة المقتدى به فإنك نصل والشدائد للنصل

تخون المنايا عهده في سليله وتنصره بين الفوارس والرجل

بنفسي وليد عاد من بعد حمله إلى بطن أم لا تطرق بالحمل

بدا وله وعد السحابة بالردى وصد وفينا غلة البلد المحل

وقد مدت الخيل العتاق عيونها إلى وقت تبديل الركاب من النعل

وريع له جيش العدو وما مشى وجاشت له الحرب الضروس وما تغلي

فتأمل أيها الناظم إلى ما صنع هذان الشاعران في هذا المقصد الواحد وكيف هام كل واحد

منهما في واد منه مع اتفاقهما في بعض معانيه‏.‏

وسأبين لك ما اتفقا فيه وما اختلفا وأذكر الفاضل من المفضول فأقول‏:‏

أما الذي اتفقا فيه فإن أبا تمام قال‏:‏

بمولودهم صمت اللسان كغيره ولكن في أعطافه منطق الفضل

فأتى بالمعنى الذي أتى به أبو تمام وزاد عليه بالصناعة اللفظية وهي المطابقة في قوله ‏"‏ صمت

اللسان ‏"‏ و ‏"‏ منطق الفصل ‏"‏‏.‏

وقال أبو تمام‏:‏

نجمان شاء الله ألا يطلعا إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا

وقال أبو الطيب‏:‏

بدا وله وعد السحابة بالروى وصد وفينا غلة البلد المحل

فوافقه في المعنى وزاد عليه بقوله‏:‏

وصد فينا غلة البلد المحل

لأنه بين قدر حاجتهم إلى وجوده وانتفاعهم بحياته‏.‏

وأما ما اختلفا فيه فإن أبا الطيب أشعر فيه من أبي تمام أيضا وذاك أن معناه أمتن من معناه

ومبناه أحكم من مبناه وربما أكبر هذا القول جماعة من المقلدين الذين يقفون مع شبهة الزمان

وقدمه لا مع فضيلة القول وتقدمه وأبو تمام وإن كان أشعر عندي من أبي الطيب فإن أبا

الطيب أشهر منه في هذا الموضع وبيان ذلك أنه قد تقدم على ما اتفقا فيه من المعنى وأما

عزاءك سيف الدولة المقتدى به فإنك نصل والشدائد للنصل

وهذا البيت بمفرده خير من بيتي أبي تمام اللذين هما‏:‏

إن ترز في طرفي نهار واحد رزأين هاجا لوعة وبلابلا

فالثقل ليس مضاعفا لمطية إلا إذا ما كان وهما بازلا

فإن قول أبي الطيب ‏"‏ والشدائد للنصل ‏"‏ أكرم لفظا ومعنى من قول أبي تمام‏:‏

إن الثقل يضاعف من المطايا وقوله أيضا‏:‏

تخون المنايا عهده في سليله وتنصره بين الفوارس والرجل

وهذا أشرف من بيتي أبي تمام اللذين هما‏:‏

لا غرو إن فننان من عيدانه لقيا حماما للبرية آكلا

إن الأشاء إذا أصاب مشذب منه اتمهل ذرا وأث أسافلا

وكذلك قال أبو الطيب‏:‏

ألست من القوم الذين من رماحهم نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل

تسليهم علياؤهم عن مصابهم ويشغلهم كسب الثناء عن الشغل

إلا مواعظ قادها لك سمحة إسجاح لبك سامعا أو قائلا

واعلم أن التفضيل بين المعنيين المتفقين أيسر خطبا من التفضيل بين المعنيين المختلفين‏.‏

وقد ذهب قوم إلى منع المفاضلة بين المعنيين المختلفين واحتجوا على ذلك بأن قالوا‏:‏ المفاضلة

بين الكلامين لا تكون إلا باشتراكهما في المعنى فإن اعتبار التأليف في نظم الألفاظ لا يكون إلا

باعتبار المعاني المندرجة تحتها فما لم يكن بني الكلامين اشترك في المعنى حتى يعلم مواقع النظم في قوة ذلك المعنى أو ضعفه أو اتساق ذلك اللفظ أو اضطرابه وإلا فكل كلام له تأليف يخصه بحسب المعنى المندرج تحته وهذا مثل قولنا‏:‏ العسل أحلى من الخل فإنه ليس في الخل حلاوة حتى تقاس حلاوة العسل عليها‏.‏

وهذا القول فاسد فإنه لو كان ما ذهب إليه هؤلاء من منع المفاضلة حقا لوجب أن تسقط

التفرقة بين جيد الكلام ورديئه وحسنه وقبيحه وهذا محال وإنما خفي عليهم ذلك لأنهم لم

ينظروا إلى الأصل الذي تقع المفاضلة فيه سواء اتفقت المعاني أو اختلفت ومن ههنا وقع لهم

الغلط‏.‏ وسأبين ذلك فأقول‏:‏ من المعلوم أن الكلام لا يختص بمزية من الحسن حتى تتصف ألفاظه ومعانيه بوصفين هما الفصاحة والبلاغة فثبت بهذا أن النظر إنما هو في هذين الوصفين اللذين هما الأصل في المفاضلة بين الألفاظ والمعاني على اتفاقهما واختلافهام فمتى وجدا في أحد الكلامين دون الآخر أو كانا أخص به من الآخر حكم له بالفضل‏.‏

وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج في تفضيل الشعر أشياء تتضمن خبطا كثيرا وهو مروي

عن علماء العربية لكن عذرتهم في ذلك فإن معرفة الفصاحة والبلاغة شيء خلاف معرفة

النحو والإعراب‏.‏

فمما وقفت عليه أنه سئل أبو عمرو بن العلاء عن الأخطل فقال‏:‏ لو أدرك يوما واحدا من

الجاهلية ما قدمت عليه أحدا وهذا تفضيل بالأعصار لا بالأشعار وفيه ما فيه ولولا أن أبا

عمرو عندي بالمكان العلي لبسطت لساني في هذا الموضع‏.‏

وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل فقال أما الفرزدق ففي يده نبعة من الشعر وهو

قابض عليها وأما الأخطل فأشدنا اجتراء وأرمانا للقرائض وأما أنا فمدينة الشعر‏.‏

وهذا القول قول إقناعي لا يحصل منه على تحقيق لكنه أقرب حالا مما روي عن أبي عمرو بن العلاء‏.‏

وسئل الأخطل عن أشعر الناس فقال‏:‏ الذي إذا مدح رفع وإذا هجا وضع فقيل‏:‏ فمن ذاك

قال‏:‏ الأعشى قيل‏:‏ ثم من قال‏:‏ طرفة وهذا قول فيه بعض التحقيق إذ ليس كل من رفع

بمدحه ووضع بهجائه كان أشعر الناس لأن المعاني الشعرية كثيرة والمدح والهجاء منها‏.‏

وسئل الشريف الرضي عن أبي تمام وعن البحتري وعن أبي الطيب فقال‏:‏ أما أبو تمام فخطيب

منبر وأما البحتري فواصف جؤذر وأما المتنبي فقاتل عسكر وهذا كلام حسن واقع في موقعه

فإنه وصف كلا منهم بما فيه من غير تفصيل

ويروى عن بشار أنه وصف نفسه بجودة الشعر والتقدم على غيره فقيل له‏:‏ ولم ذاك فقال‏:‏

لأني نظمت اثني عشر ألف قصيدة وما تخلو واحدة منهن من بيت واحد جيد فيكون لي

حينئذ اثنا عشر ألف بيت وقد تأملت هذا القول فوجدته على بشار لا له لأن باقلا الذي

يضرب به المثل في العي لو نظم قصيدا لما خلا من بيت واحد جيد ومن الذي ينظم قصيدا

واحدا من الشعر ولا يسلم منه بيت واحد لكن كان الأولى ببشار أن قال‏:‏ لي اثنتا عشرة ألف

قصيدة ليس واحدة منهن إلا وجيدها أكثر من رديئها وليس في واحدة منهن ما يسقط فإنه لو

قال ذلك وكان محقا لاستحق التقدم على الشعراء ومع هذا فقد وصل إلي ما في أيدي الناس من

شعره مقصدا ومقطعا فما وجدته بتلك الغاية التي ادعاها لكن وجدت جيده قليلا بالنسبة إلى

رديئه وتندر له الأبيات اليسيرة‏.‏

وبلغني عن الأصمعي وأبي عبيد وغيرهما أنهم قالوا‏:‏ هو أشعر الشعراء المحدثين قاطبة وهم

عندي معذورون لأنهم ما وقفوا على معاني أبي تمام ولا على معاني أبي الطيب ولا وقفوا

على ديباجة أبي عبادة البحتري وهذا الموضع لا يستفتى فيه علماء العربية وإنما يستفتى فيه

كاتب بليغ أو شاعر مفلق فإن أهل كل علم أعلم به وكما لا يسأل الفقيه عن مسألة حسابية

فكذلك لا يسأل الحاسب عن مسألة فقهية وكما لا يسأل النحوي عن مسألة طبية كذلك لا

يسأل الطبيب عن مسألة نحوية ولا يعلم كل علم إلا صاحبه الذي قلب ظهره لبطنه وبطنه

لظهره‏.‏

على أن علم البيان من الفصاحة والبلاغة محبوب إلى الناس قاطبة ما من أحد إلا ويحب أن

يتكلم فيه حتى إني رأيت أجلاف العامة ممن لم يخط بيده ورأيت أغتام الأجناس ممن لا ينطق

بالكلمة صحيحة كلهم يخوض في فن الكتابة والشعر ويأتون فيه بكل مضحكة وهم يظنون أنهم

عالمون به ولا لوم عليهم فإنه بلغني عن ابن الأعرابي وكان من مشاهير العلماء أنه عرض عليه أرجوزة أبي تمام اللامية التي مطلعها‏:‏

وعاذل عذلته في عذله

وقيل له‏:‏ هذه لفلان من شعراء العرب فاستحسنها غاية الاستحسان وقال‏:‏ هذا هو الديباج

الخسرواني ثم استكتبها فلما أنهاها قيل له‏:‏ هذه لأبي تمام فقال‏:‏ من أجل ذلك أرى عليها أثر

الكلفة ثم ألقى الورقة من يده وقال‏:‏ يا غلام خرق فإذا كان ابن الأعرابي مع علمه وفضله لا

يدري أي طرفيه أطول في هذا الفن ولا يعلم أين يضع يده فيه ويبلغ به الجهل إلى أن يقف مع

التقليد الشنيع الذي هذا غايته فما الذي يقول غيره وما الذي يتكلم فيه سواه والمذهب

عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريرا والأخطل أشعر العرب أولاً وأخرا ومن وقف

على الأشعار ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت إليه ولا ينبغي أن يوقف مع شعر امرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى فإن كلا من أولئك أجاد في معنى اختص به حتى قيل

في وصفهم‏:‏ امرؤ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب والأعشى إذا شرب

وأما الفرزدق وجرير والأخطل فإنهم أجادوا في كل ما أتوا به من المعاني المختلفة وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون وهم أبو تمام وأبو عبادة البحتري وأبو الطيب المتنبي فإن هؤلاء

الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء أما أبو تمام وأبو الطيب فربا المعاني وأما أبو عبادة فرب الألفاظ في ديباجتها وسبكها‏.‏

وبلغني أن أبا عبادة البحتري سأل ولده أبا الغوث عن الفرزدق وجرير أيهما أشعر فقال‏:‏ جرير أشعر قال وبم ذلك قال‏:‏ لأن حوكه شبيه بحوكك قال‏:‏ ثكلتك أمك أو في الحكم عصبية قال

يا أبت فمن أشعر قال‏:‏ الفرزدق قال‏:‏ وبم ذلك قال‏:‏ لأن أهاجي جرير كلها تدور على

أربعة أشياء هي القين والزنا وضرب الرومي بالسيف والنفي من المسجد ولا يهجو الفرزدق

بسوى ذلك وأما الفرزدق فإنه يهجو جريرا بأنحاء مختلفة ففي كل قصيد يرميه بسهام غير

السهام التي يرميه بها في القصيد الآخر وأنا أستكذب راوي هذه الحكاية ولا أصدقه فإن

البحتري عندي ألب من ذلك وهو عارف بأسرار الكلام خبير بأوساطه وأطرافه وجيده

ورديئه وكيف يدعي على جرير أنه لم يهج الفرزدق إلا بتلك المعاني الأربعة التي ذكرها وهو

القائل‏:‏

لما وضعت على الفرزدق ميسمي وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

فجمع بين هجاء هؤلاء الثلاثة في بيت واحد‏.‏

ولقد تأملت كتاب النقائض فوجدت جريرا رب تغزل ومديح وهجاء وافتخار وقد كسا كل

منعنى من هذه المعاني ألفاظا لائقة به ويكفيه من ذلك قوله‏:‏

وعاو عوى من غير شيء رميته بقافية أنفاذها تقطر الدما

وإني لقوال لكل غريبة ورود إذا الساري بليل ترنما

خروج بأفواه الرواة كأنها شبا هندواني إذا هز صمما

غرائب آلاف إذا حان وردها أخذن طريقاً للقصائد معلماً

ولو لم يكن لجرير سوى هذه الأبيات لتقدم بها الشعراء‏.‏

وسأذكر من هجاء الفرزدق ما ليس فيه شيء من تلك المعاني الأربعة التي أشار البحتري

إليها فمن ذلك قوله‏:‏

وقد زعموا أن الفرزدق حية وما قتل الحيات من أحد قبلي

ألم تر أني لا أنبل رميتي فمن أرم لا تخطيء مقاتله نبلي

رأيتك لا تحمي عقالا ولم ترد قتالا فما لاقيت شر من القتل

وقوله‏:‏

أبلغ هديتي الفرزدق إنها عبء تزاد على حسير مثقل

إني انببت من السماء عليكم حتى اختطفتك يا فرزدق من عل

وقوله‏:‏

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا أبشر بطول سلامة يا مربع

ورأيت نبلك يا فرزدق قصرت ورأيت قوسك ليس فيها منزع

إن الفرزدق قد تبين لؤمه حيث التقت خششاؤه والأخدع

وقوله‏:‏

أحارث خذ من شئت منا ومنهم ودعنا نقس مجدا تعد فضائله

فلست بذي عز ولا ذي أرومة وما تعط من ضيم فإنك قابله

وقوله‏:‏

لا يخفين عليك أن مجاشعا لو ينفخون من الخؤرة طاروا

قد يؤسرون فلا يفك أسرهم ويقتلون فتسلم الآثار

وقوله‏:‏

بني مالك إن الفرزدق لم يزل يلقي المخازي من لدن أن تيفعا

مددت له الغايات حتى تركته قعود القوافي ذا علوب موقعا

وقوله‏:‏

ألا إنما كان الفرزدق ثعلبا ضغا وهو في أشداق ليث ضبارم

وقوله‏:‏

مهلا فرزدق إن قومك فيهم خور القلوب وخفة الأحلام

الظاعنون على العمى بجميعهم والنازلون بشر دار مقام

وقوله‏:‏

إذا سفرت يوما نساء مجاشع بدت سوأة مما تجن البراقع

رأت مللا مثل الفرزدق قصرت عن العلو لا يأبى عن العلو بارع

أتعدل أحسابا كراما حماتها بأحسابكم إني إلى الله راجع

إذا قيل أي الناس شر قبيلة وأعظم عاراً قيل تلك مجاشع

وقوله‏:‏

علق الأخيطل في حبالي بعد ما عثر الفرزدق لا لعا للعاثر

لقي الفرزدق ما لقيت وقبله طاح التعيس بغير عرض وافر

وإذا رجوا أن ينقضوا لي مرة مرست قواي عليهم ومرائري

ولجرير مواضع كثيرة في هجاء الفرزدق غير هذه ولولا خوف الإطالة لاستقصيتها جميعها ولو سلمت إلى البحتري ما زعم من أن جريرا ليس له في هجاء الفرزدق إلا تلك المعاني الأربع لاعترضت عليه بأنه قد أقر لجرير بالفضيلة وذاك أن الشاعر المفلق أو الكاتب البليغ هو الذي إذا أخذ معنى واحد تصرف فيه بوجوه التصرفات وأخرجه في ضروب الأساليب وكذلك فعل جرير فإنه أبرز من هجاء الفرزدق بالقين كل غريبة وتصرف فيه تصرفا مختلف الأنحاء فمن ذلك قوله‏:‏

ألهى أباك عن المكارم والعلا لي الكتائف وارتفاع المرجل

وجد الكتيف ذخيرة في قبره والكلبتان جمعن والمنشار

يبكي صداه إذا تصدع مرجل أو إن تفلق برمة أعشار

قال الفرزدق رقعي أكيارنا قالت وكيف ترقع الأكيار

وقوله‏:‏

إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب

فأورثك العلا وأورثوني رباط الخيل أفنية القباب

وسيف أبي الفرزدق فاعلموه قدوم غير ثابتة النصاب

فانظر أيها الواقف على كتابي هذا إلى هذه الأساليب التي تصرف فيها جرير وأدارها على

هجاء الفرزدق بالقين فقال أولا‏:‏ إن أباه شغل عن المكارم بصناعة القيون ثم قال ثانيا‏:‏ إنه

يبكي عليه ويندبه بعد الموت المرجل والبرمة الأعشار التي يصلحها ثم قال ثالثا‏:‏ إن أباك أورثك آلة القيون وأورثني أبي رباط الخيل وقد أورد جرير هذا المعنى على غير هذه الأساليب التي ذكرتها ولا حاجة إلى التطويل بذلك ههنا وهذا القدر فيه كفاية‏.‏

وحيث انتهى بنا القول إلى ههنا فلنرجع إلى النوع الذي نحن بصدد ذكره وهو اتحاد الطريق

واختلاف المقصد فمما جاء منه قول النابغة‏:‏

جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أول غالب وهذا المعنى قد توارد عليه الشعراء قديما وحديثا وأوردوه بضروب من العبارات فقال أبو نواس‏:‏

تتمنى الطير غزوته ثقة باللحم من جزره

وقال مسلم بن الوليد‏:‏

قد عود الطير عادات وثقن بها فهن يتبعنه في كل مرتحل

وقال أبو تمام‏:‏

وقد ظللت أعناق أعلامه ضحى بعقبان طير في الدماء نواهل

أقامت مع الرايات حتى كأنها من الجيش إلا أنها لم تقاتل

وقد ذكر في هذا المعنى غير هؤلاء إلا أنهم جاءوا بشيء واحد لا تفاضل بينهم فيه إلا من

جهة حسن السبك أو من جهة الإيجاز في اللفظ ولم أر أحدا أغرب في هذا المعنى فسلك هذه

الطريق مع اختلاف مقصده إليها إلا مسلم بن الوليد فقال‏:‏

أشربت أرواح العدا وقلوبها خوفاً فأنفسها إليك تطير

لو حاكمتك فطالبتك بذحلها شهدت عليك ثعالب ونسور

فهذا من المليح البديع الذي فضل به مسلم غيره في هذا المعنى وكذلك فعل أبو الطيب المتنبي

فإنه لما انتهى الأمر إليه سلك هذه الطريق التي سلكها من تقدمه إلا أنه خرج فيها إلى غير

المقصد الذي قصدوه فأغرب وأبدع وحاز الإحسان بجملته وصار كأنه مبتدع لهذا المعنى

دون غيره فمما جاء من قوله‏:‏

يفدي أتم الطير عمراً سلاحه نسور الملا أحداثها والقشاعم

وما ضرها خلق بغير مخالب وقد خلقت أسيافه والقوائم

ثم أورد هذا المعنى في موضع آخر من شعره فقال‏:‏

سحاب من العقبان ترجف تحتها سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه

وهذا معنى قد حوى طرفي الإغراب والإعجاب وقال في موضع آخر‏:‏

وذي لجب لا ذو الجناح أمامه بناج ولا الوحش المثار بسالم

تمر عليه الشمس وهي ضعيفة تطالعه من بين ريش القشاعم

إذا ضوؤها لاقى من الطير فرجة تدور فوق البيض مثل الدراهم

وهذا من إعجاز أبي الطيب المشهور ولو لم يكن له من الإحسان في شعره إلا هذه الأبيات

لاستحق بها فضيلة التقدم‏.‏

ومما ينتظم بهذا النوع ما توارد عليه أبو عبادة البحتري وأبو الطيب المتنبي في وصف الأسد

وقصيدتاهما مشهورتان فأول إحداهما‏:‏

أجدك ما ينفك يسري لزينبا

وأول الأخرى‏:‏

في الخد إن عزم الخليط رحيلا

أما البحتري فإنه ألم بطرف مما ذكر بشر بن عوانة في أبياته الرائية التي أولها‏:‏

أفاطم لو شهدت ببطن خبت وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا

وهذه الأبيات من النمط العالي الذي لم يأت أحد بمثلها وكل الشعراء لم تسم قرائحهم إلى

استخراج معنى ليس بمذكور فيها ولولا خوف الإطالة لأوردتها بجملتها لكن الغرض إنما هو

المفاضلة بين البحتري وأبي الطيب فيما أورداه من المعاني في هذا المقصد المشار إليه‏.‏

فمما جاء للبحتري من قصيدته‏:‏

وما تنقم الحساد إلا أصالة لديك وعزما أريحيا مهذبا

وقد جربوا بالأمس منك عزيمة فضلت بها السيف الحسام المجربا

غداة لقيت الليث والليث مخدر يحدد نابا للقاء ومخلبا

شهدت لقد أنصفته حين تنبري له مصلتا عضبا من البيض مقضبا

فلم أر ضرغامين أصدق منكما عراكا إدا الهيابة النكس كذبا

هزبرا مشى يبغي هزبرا وأغلبا من القوم يغشى باسل الوجه أغلبا

أدل بشغب ثم هالته صولة راك لها أمضى جنانا وأشغبا

فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا وأقدم لما لم يجد عنك مهربا

فلم يثنه أن كر نحوك مقبلا ولم ينجه أن حاد عنك منكبا

حملت عليه السيف لا عزمك انثنى ولا يدك ارتدت ولا حده نبا

ومما جاء لأبي الطب المتنبي في قصيدته‏:‏

أمعفر الليث الهزبر بسوطه لمن ادخرت الصارم المقصولا

ورد إذا ورد البحيرة شاربا ورد الفرات زئيره والنيلا

متخضب بدم الفوارس لابس في غيله من لبدتيه غيلا

ما قوبلت عيناه إلا ظنتا تحت الدجى نار الفريق حلولا

قصرت مخافته الخطا فكأنما ركب الكمي جواده مشكولا

ألقى فريسته وزمجر دونها وقربت قربا خاله تطفيلا

فتشابه القربان في إقدامه وتخالفا في بذلك المأكولا

أسد يرى عضويه فيك كليهما متنا أزال وساعدا مفتولا

ما زال يجمع نفسه في زوره حتى حسبت العرض منه الطولا

وكأنما غرته عين فادنى لا يبصر الخطب الجليل جليلا

أنف الكريم من الدنية تارك من عينه العدد الكثير قليلا

والعلر مضاض وليس بخائف من حتفه من خاف مما قيلا

خذلته قوته وقد كافحته فاستنصر التسليم والتجديلا

سمع ابن عمته به وبحاله فمضى يهرول أمس منك مهولا

وأمر مما فر منه فراره وكقتله ألا يموت قتيلا

تلف الذي اتخذ الجراءة خلة وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا

شجاعة الممدوح‏:‏ في تشبيهه بالأسد مرة وتفضيله عليه أخرى ولم يأت بشيء سوى ذلك وأما

أبو الطيب فإنه أتى بذلك في بيت واحد وهو قوله‏:‏

أمعفر الليث الهزبر بسوطه لمن ادخرت الصارم المصقولا

ثم إنه تفنن في ذكر الأسد فوصف صورته وهيئته ووصف أحواله في انفراده في جنسه وفي

هيئه مشيه واختياله ووصف خلق نجله مع شجاعته وشبه الممدوح به في الشجاعة وفضله

عليه بالسخاء ثم إنه عطف بعد ذلك على ذكر الأنفة والحمية التي نعثت الأسد على قتل نفسه

بلقاء الممدوح وأخرج ذلك في أحسن مخرج وأبرزه في أشرف معنى وإذا تأمل العارف بهذه

الصناعة أبيات الرجلين عرف ببديهة النظر ما أشرت إليه والبحتري وإن كان أفضل من المتنبي في صوغ الألفظ وطلاوة السبك فالمتنبي أفضل منه في الغوص على المعاني ومما يدلك على ذلك أنه لم يعرض لما ذكره في أبياته الرائية لعلمه أن بشرا قد ملك رقاب تلك المعاني واستحوذ عليها ولم يترل لغيره شيئا يقوله فيها ولفطانة أبي الطيب لم يقع فيما وقع فيه البحتري من النسحاب على ذيل بشر لأنه قصر عنه تقصيرا كثيرا ولما كان الأمر كذلك عدل أبو الطيب عن سلوك الطريق وسلك غيرها فجاء فيما أورد مبرزا‏.‏

واعلم أن من أبين البيان في المفاضلة بين أرباب النظم والنثر أن يتوارد اثنان منهما على مقصد

من المقاصد يشتمل على عدة معان كتوارد البحتري والمتنبي ههنا على وصف الأسد وهذا أبين في المفاضلة من التوارد على معنى واحد يصوغه هذا في بيت من الشعر وفي بيتين ويصوغه الآخر في مثل ذلك فإن بعد المدى يظهر ما في السوابق من الجواهر وعنده يتبين ربح الرابح وخسر الخاسر‏.‏

فإذا شئت أن تعلم فضل ما بين هذين الرجلين فانظر إلى قصيدتهما في مراثي النساء التي مفتتح

إحداهما

يا أخت خير أخ يا بنت خير أب كناية عن أكرم العرب

وهي لأبي الطيب ومفتتح الأخرى‏:‏

عروب دمع من الأجفان ينهمل وحرقة بغليل الحزن تشتعل

وهي للبحتري فإن أبا الطيب انفرد بابتداع ما أتى به من معاني قصيدته والبحتري أتى بما

أكثره غث بارد والمتوسط منه لا فرق فيه بين رثاء امرأة أو رجل ‏,‏

ومن الواجب أنه إذا سلك الناظم أو الناثر مسلكا في غرض من الأغراض ألا يخرج عنه كالذي

سلكه هذان الرجلان في الرثاء بامرأة فإن من حذاقة الصنعة أن يذكر ما يليق بالمرأة دون

الرجل وهذا الموضع لم يأت فيه أحد بما يثبت على المحك إلا أبو الطيب وحده وأما غيره من

وله في هذا المعنة قصيدة أخرى مفتتحها‏:‏

نعد المشرفية والعوالي وتقلتنا المنون بلا قتال

وكفى بهما شاهدا على ما ذكرته من انفراده بالإبداع فيما أتى به والفتيا عندي بينه وبين

البحتري أن أبا الطيب أنفذ في المضيق وأعرف باستخراج المعنى الدقيق وأما البحتري فإنه

أعرف بصوغ الألفاظ وحوك ديباجتها وقد قدمت أن الحكم بني الشاعرين في اتفاقهما في

المعنى أبين من الحكم بينهما فيما اختلفا فيه لأنهما مع الاتفاق في المعنى يتبين قولاهما ويظهران ظهورا يعلم ببديهة النظر ويتسارع إليه فهم من ليس بثاقب الفهم وأما اختلافها في المعنى فإنه يحتاج في الحكم بينهما فيه إلى كلام طويل يعز فهمه ولا يتفطن له إلا مقالة مفردة ضمنتها الحكم بين المعنين المختلفين وتكلمت عليه كلاما طويلا عريضا وأقمت الدليل على ما نصصت عليه وما منعني من إيرادها في كتابي هذا إلا أنها سنحت لي بعد تصنيفه وشياعه في أيدي الناس وتناقل النسخ به‏.‏

وعلى هذا الأسلوب توارد البحتري والشريف الرضي على ذكر الذئب في قصيدة للبحتري

دالية أولها‏:‏ سلام عليكم لا وفاء ولا عهد

وعاري الشوى والمنكبين من الطوى أتيح له بالليل عاري الأشاجع وقد أجاد البحتري في وصف حاله مع الذئب والشريف أجاد في وصف الذئب نفسه‏.‏

  المسخ

وأما المسخ فهو‏:‏ قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة‏.‏

والقسمة تقتضي أن يقرن إليه صده وهو قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة‏.‏

فالأول كقول أبي تمام‏:‏

فتى لا يرى أن الفريصة مقتل ولكن يرى أن العيوب مقاتل

وقول أبي الطيب المتنبي‏:‏

يرى أن ما بان منك لضارب بأقتل مما بان منك لعائب

فهو وإن لم يشوه المعنى فقد شوه الصورة ومثاله في ذلك كمن أودع الوشي شملا وأعطى

الورد جعلا وهذا من أرذل السرقات وعلى نحو منه جاء قول عبد السلام بن رغبان‏:‏

نحن نعزيك ومنك الهدى مستخرج والصبر مستقبل

نقول بالعقل وأنت الذي نأوي إليه وبه نعقل

أخذه أبو الطيب فقلب أعلاه أسفله فقال‏:‏

إن يكن صبر ذي الرزية فضلا فكن الأفضل الأعز الأجلا

أنت يا فوق أن تعزى عن الأح - باب فوق الذي يعزيك عقلا

وبألفاظك اهتدى فإذا عز - اك قال الذي له قلت قبلا

والبيت الأخير من هذه الأبيات هو الآخر قدرا وهو المخصوص بالمسخ‏.‏

وأما قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة فهذا لا يسمى سرقة بل يسمى إصلاحا وتهذيبا‏.‏

فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي‏:‏

لو كان ما تعطيهم من قبل أن تعطيهم لم يعرفوا التأميلا

وقول ابن نباتة السعدي‏:‏

لم يبق جودك لي شيئا أؤمله تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

وعلى هذا النحو ورد قول أبي نواس في أرجوزة يصف فيها اللعب بالكرة والصولجان فقال من جملتها‏:‏

جن على جن وإن كانوا بشر كأنما خيطوا عليها بالإبر

ثم جاء المتنبي فقال‏:‏

وبين القولين كما بين السماء والأرض فإنه يقال‏:‏ ليس للأرض إلى السماء نسبة محسوسة

وكذلك يقال ههنا أيضا فإن بقدر ما في قول أبي نواس من النزول والضعف فكذلك في قول

أبي الطيب من العلو والقوة‏.‏

وربما ظن بعض الجهال أن قول الشماخ‏:‏

إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فاشرقي بدم الوتين

وقول أبي نواس‏:‏

وإذا المطي بنا بلغن محمدا فظهورهن على الرجال حرام

من هذا القبيل الذي هو قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة وليس كذلك فإن قلب

الصورة القبيحة إلى صورة حسنة هو أن يؤخذ المعنى الواحد فيكسى عبارتين إحداهما قبيحة

والأخرى حسنة فالحسن والقبح إنما يرجع إلى التعبير لا إلى المعنى نفسه وقول أبي نواس هو

عكس قول الشماخ وقد تقدم مثل ذلك فيما مضى من ضروب السرقات ألا ترى إلى قول أبي

الطيب المتنبي وقول الشريف الرضي فقال أبو الطيب‏:‏

إني على شغفي بما في خمرها لأعف عما في سراويلاتها

وقول الشريف الرضي‏:‏

فالمعنى واحد والعبارة مختلفة في الحسن والقبح‏.‏

وهذه السرقات وهي ستة عشر نوعا لا يكاد يخرج عنها شيء وإذا أنصف الناظر في الذي

أتيت به ههنا علم أني قد ذكرت ما لم يذكره غيري وأنا أسأل الله التوفيق لأن أكون لفضله

شكورا وألا أكون مختالا فخورا‏.‏

وإذ فرغت من تصنيفي هذا الكتاب وحررت القول في تفصيل أقسام الفصاحة والبلاغة

والكشف عن دقائقهما وحقائقهما فينبغي أن أختمه بذكر فضليهما فأقول‏:‏

اعلم أن هذا الفن هو أشرف الفضائل وأعلاها درجة ولولا ذلك لما فخر به رسول الله ‏)‏في

عدة مواقف فقال تارة‏:‏ ‏"‏ أنا أفصح من نطق بالضاد ‏"‏ وقال تارة‏:‏ ‏"‏ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث في قومه بعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم وجعلت لي

الأرض طيبة وطهورا ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأوتيت جوامع الكلم ‏"‏ وما سمع

بأن رسول الله ‏)‏افتخر بشيء من العلوم سوى علم الفصاحة والبلاغة فلم يقل إنه أفقه الناس

ولا أعلم الناس بالحساب ولا بالطب ولا بغير ذلك كما قال‏:‏ ‏"‏ أنا أفصح من نطق بالضاد ‏"‏

وأيضا فلو لم تكن هذه الفضيلة من أعلى الفضائل درجة لما اتصل الإعجاز بها دون غيرها

فإن كتاب الله تعالى نزل عليها ولم ينزل بمعجز من مسائل الفقه ولا من مسائل الحساب ولا من ولما كانت هذه الفضيلة بهذه المكانة صارت في الدرجة العالية والمنثور منها أشرف من

المنظوم لأسباب من جملتها أن الإعجاز لم يتصل بالمنظوم وإنما اتصل بالمنثور الآخر أن أسباب النظم أكثر ولهذا نجد المجيدين منهم أكثر من المجيدين من الكتاب بل لا نسبة لهؤلاء إلى هؤلاء ولو شئت أن تحصي أرباب الكتابة من أول الدولة الإسلامية إلى الآن لما وجدت منهم ممن يستحق اسم الكاتب عشرة وإذا أحصيت الشعراء في تلك المدة وجدتهم عددا كثيرا حتى

لقد كان يجتمع منهم في العصر الواحد جماعة كثيرة كل منهم شاعر مفلق وهذا لا نجده في الكتاب بل ربما ندر الفرد الواحد في الزمن الطويل وليس ذلك إلا لوعورة المسلك من النثر

وبعد مناله والكاتب هو أحد دعامتي الدولة فإن كل دولة لا تقوم إلا على دعا متين من

السيف والقلم وربما لا يفتقر إليه على الأيام وكثيرا ما يستغني به عن السيف وإذا سئل عن

الملوك الذين غبرت أيامهم لا يوجد منهم من حسن اسمه من بعده إلا من حظي بكاتب خطب

عنه وفخم أمر دولته وجعل ذكرها خالدا يتناقله الناس رغبة في فصل خطابه واستحسانا

لبداعة كلامه فيكون ذكرها في خفارة ما دونه قلمه ورقمته أساطيره وليس الكاتب بكاتب

حتى يضطر عدو الدولة أن يروي أخبار مناقبها في حفله ويصبح ولسانه لمساعيها وبقلبه ما به

من غله ولقد أحسن أبو تمام في هذا المعنى حيث قال‏:‏

فإن أنا لم يحمدك عني صاغرا عدوك فاعلم أنني غير حامد

وهذا الذي ذكرته حق وصدق لاينكره إلا جاهل به وأنا أسأل الله الزيادة من فضله وإن لم

أكن أهلا له فإنه هو من أهله‏.‏

ووقف على كلام لأبي إسحق الصابي في الفرق بين الكتابة والشعر وهو جواب لسائل سأله

فقال‏:‏ إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه لأن الترسل هو ما وضح معناه وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه وأفخر الشعر ما غمض فلم

يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه‏.‏

ثم قال بعد ذلك‏:‏ ولسائل أن يسأل فيقول‏:‏ من أية جهة صار الأحسن في معنى الشعر الغموض

وفي معاني الترسل الوضوح فالجواب أن الشعر بني على حدود مقررة وأوزان مقدرة وفصلت

أبياته فكان كل بيت منها قائما بذاته وغير محتاج إلى غيره إلا ما جاء على وجه التضمين

وهو عيب فلما كان النفس لا يمتد في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه وكلاهما

قليل احتيج إلى أن يكون الفصل في المعنى فاعتمد أن يلطف ويدق والترسل مبني على مخالفة

هذه الطريق إذ كان كلاما واحدا لا يتجزأ ولا يتفصل إلا فصولا طوالا وهو موضوع وضع ما

يهذهذ أو يمر به على أسماع شتى من خاصة ورعية وذوي أفهام ذكية وأفهام غبية فإذا كان

متسلسلا ساغ فيها وقرب فجميع ما يستحب في الأول يكره في الثاني حتى إن التضمين عيب

في الشعر وهو فضيلة في الترسل‏.‏

ثم قال بعد ذلك‏:‏ والفرق بين المترسلين والشعراء أن الشعراء إنما أغراضهم التي يرمون إليها

وصف الديار والآثار والحنين إلى الأهواء والأوطار والتشيب بالنساء والطلب والاجتداء

والمديح والهجاء وأما المترسلون فإنما يترسلون في أمر سداد ثغر وإصلاح فساد أو تحريض

على جهاد أو احتجاج على فئة أو مجادلة لمسألة أو دعاء إلى ألفة أو نهي عن فرقة أو تهنئة

بعطية أو تعزية برزية أو ما شاكل ذلك‏.‏

هذا ما انتهى إليه كلام أبي إسحاق في الفرق بين الترسل والشعر‏.‏

ولقد عجبت من ذلك الرجل الموصوف بذلاقة اللسان وبلاغة البيان كيف يصدر عنه مثل

هذا القول الناكب عن الصواب الذي هو في باب ونصى النظر في باب الله غفرا وسأذكر ما

عندي في ذلك لا إرادة للطعن عليه بل تحقيقا لمحل النزاع فأقول‏:‏

أما قوله ‏"‏ إن الترسل هو ما وضح معناه والشعر ما غمض معناه فإن هذه دعوى لا مستند

لها بل الأحسن في الأمرين معا إنما هو الوضوح والبيان على أن إطلاق القول على هذا الوجه

من غير تقييد لا يدل على الغرض الصحيح بل صواب القول في هذا أن يقال‏:‏ كل كلام من

منثور ومنظوم فينبغي أن تكون مفردات ألفاظه مفهومة لأنها إن لم تكن مفهومة فلا تكون

صحيحة لكن إذا صارت مركبة نقلها التركيب عن تلك الحال في فهم معانيها فمن المركب منها

ما يفهمه الخاصة والعامة ومنه ما لا يفهمه إلا الخاصة وتتفاوت درجات فهمه ويكفي من

ذلك كتاب الله تعالى وتتفاوت درجات فهمه ويكفي من ذلك كتاب الله تعالى فإنه أفصح

الكلام وقد خوطب به الناس كافة من خاص وعام ومع هذا فمنه ما يتسارع الفهم إلى معانيه

ومنه يغمض فيعز فهمه والألفاظ المفردة ينبغي أن تكون مفهومة سواء كان الكلام نظما أو نثرا

وإذا تركبت فلا يلزم فيها ذلك وقد تقدم في كتابي هذا أدلة كثيرة على هذا فتؤخذ من

مواضعها‏.‏

وأما الجواب الذي أجاب به في الدلالة على غموض الشعر ووضوح الكلام المنثور فليس ذلك

بجواب وهب أن الشعر كان كل بيت منه قائما بذاته فلم كان مع ذلك غامضا وهب أن

الكلام المنثور كان واحدا لا يتجزأ فلم كان مع ذلك واضحا ثم لو سلمت إليه هذا فماذا

يقول في الكلام المسجوع الذي كل فقرة منه بمنزلة بيت من شعر

وأما قوله في الفرق بين الشاعر والكاتب ‏"‏ إن الشاعر من شأنه وصف الديار والآثار والحنين إلى الأهواء والأوطار والتشبيب بالنساء والطلب والاجتداء والمديح والهجاء وإن الكاتب من شأنه الإفاضة في سداد ثغر أو إصلاح فساد أو تحريض على حياد أو احتجاج على فئة أو مجادلة لمسألة أو دعاء إلى ألفة أو نهي عن فرقة أو تهنئة بعطية أو تعزية برزية ‏"‏ فإن هذا تحكم محض لا يستند إلى شبهة فضلا عن بينة وأي فرق بين الشاعر والكاتب في هذا المقام فكما يصف الشاعر الديار والآثار ويحن إلى الأهواء فكذلك الكاتب في الاشتياق إلى الأوطان ومنازل الأحباب والإخوان ويحن إلى الأهواء والأوطار ولهذا كانت الكتب الإخوانيات بمنزلة الغزل والنسيب من الشعر وكما يكتب الكاتب في إصلاح فساد أو سداد ثغر أو دعاء إلى ألفة أو نهي عن فرقة أو تهنئة أو تعزية فكذلك الشاعر فإن شذ عن الصابي قصائد الشعراء في

أمثال هذه المعاني فكيف خفي عنه قصيدة أبي تمام في استعطاف مالك بن طوق على قومه

التي مطلعها‏:‏

لو أن دهرا رد رجع جوابي

أم كيف بالنظر في ديوان أبي الطيب المتنبي وهما في زمن واحد فما تأمل قصيدته في الإصلاح يبن كافور الإخشيدي وبين مولاه الذي مطلعها‏:‏

حسم الصلح ما اشتهته الأعادي

وكذلك لا شك أنه لم يقف على قصيدة أبي عبادة البحتري في غزو البحر التي مطلعها‏:‏

ولو أخذت في تعداد قصائد الشعراء في الأغراض التي أشار إليها وخص بها الكاتب لأطلت

وذكرت الكثير الذي يحتاج إلى أوراق كثيرة وكل هذه الفروق التي نص عليها وعددها فليست

بشيء ولا فرق بين الكناية والشعر فيها‏.‏

والذي عندي في الفرق بينهما هو من ثلاثة أوجه‏:‏

الأول‏:‏ من جهة نظم أحدهما ونثر الآخر وهذا فرق ظاهر‏.‏

الثاني‏:‏ أن من الألفاظ ما يعاب استعماله نثرا ولا يعاب نظما وذلك شيء استخرجته ونبهت

عليه في القسم الأول المختص باللفظة المفردة في المقالة الأولى من هذا الكتاب وسأعيد ههنا منه شيئا فأقول‏:‏

قد ورد في شعر أبي تمام قوله‏:‏

هي العرمس الوجناء وابن ملمة وجأش على ما يحدث الدهر خافض

وكذلك ورد في شعر أبي الطيب المتنبي كقوله‏:‏

ومهمة جبته على قدمي تعجز عه العرامس الذلل فلفظة المهمة والعرامس لا يعاب استعمالها في الشعر ولو استعملا في كتاب أو خطبة كان استعمالها معيبا وكذلك ما يشاكلهما ويناسبهام من الألفاظ وكل ذلك قد ضبطته بضوابط

وحددته بحدود تفصله من غيره من الألفاظ فليؤخذ من المقالة الأولى ولولا خوف التكرار

لأعدته ههنا‏.‏

الثالث‏:‏ أن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره واحتاج إلى

الإطالة بأن ينظم بيت أو ثلثمائة أو أكثر من ذلك فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه بل

يجيد في جزء قليل والكثير من ذلك رديء غير مرضي والكاتب لا يؤتي من ذلك بل يطيل

الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر وتكون مشتملة على

ثلثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة وهو مجيد في ذلك كله وهذا لا نزاع فيه لأننا رأيناه

وسمعناه وقلناه‏.‏

وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها فإن شاعرهم يذكر

كتابا مصنفا من أوله إلى آخره شعرا وهو شرح قصص وأحوال ويكون مع ذلك في غاية

الفصاحة والبلاغة في لغة القوم كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاه نامه وهو

ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس وهو قرآن القوم وقد أجمع فصحاؤهم

على أنه ليس في لغتهم أفصح منه وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها

وأغراضها وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر‏.‏

اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلم تسليما كثيراً إلى

يوم الدين‏.‏